### **رواية "رسائل من تحت الأرض": غوص دوستويفسكي في أعماق النفس البشرية المظلمة**
في بانثيون الأدب العالمي، تقف أعمال فيودور
دوستويفسكي كأعمدة شاهقة تستكشف أعمق وأعتم زوايا النفس البشرية. ومن بين هذه
الأعمال، تحتل رواية "رسائل من تحت الأرض" (1864) مكانة فريدة ومحورية.
![]() |
### **رواية "رسائل من تحت الأرض": غوص دوستويفسكي في أعماق النفس البشرية المظلمة** |
- هي ليست مجرد قصة، بل صرخة فلسفية مدوية، ومونولوج حميمي لشخصية أصبحت أيقونة
- للاغتراب الحديث. هذا العمل، الذي يعتبره الكثيرون حجر الأساس للأدب الوجودي، يمثل تحديًا
- فكريًا وعاطفيًا
للقارئ، ويجبره على مواجهة أسئلة مقلقة حول الحرية، العقل، والمعاناة.
#### **من هو "رجل القبو"؟ لقاء مع البطل النقيض**
تبدأ الرواية بواحدة من أشهر الافتتاحيات في
تاريخ الأدب: "أنا رجل مريض... أنا رجل شرير. أنا رجل منفر". بهذه
الكلمات، يقدم لنا دوستويفسكي بطله، أو بالأحرى بطله النقيض (Anti-hero)، الذي لم يمنحه اسمًا، مكتفيًا بتعريفه
من خلال مكانه: "القبو" أو "تحت الأرض". هذا الرجل هو موظف
حكومي متقاعد يعيش في عزلة تامة في قبو بائس في سان بطرسبرغ، ومن هناك يطلق العنان
لأفكاره المتناقضة والحاقدة على العالم والبشرية ونفسه.
- "رجل القبو" ليس مجرد شخصية متشائمة؛ إنه تجسيد للوعي المفرط الذي تحول إلى لعنة. إنه يحلل
- كل دافع، وكل فكرة، وكل شعور إلى درجة الشلل التام. يدرك تمامًا دوافعه الحقيرة، ويتباهى بها
- أحيانًا، ثم يمقت نفسه بسببها في اللحظة التالية. هذا الصراع الداخلي المستمر يجعله عاجزًا عن الفعل
- الحقيقي
فيكتفي بالانسحاب إلى عالمه السفلي، حيث يجد لذة غريبة في إذلال نفسه
ومعاناته، معتبرًا إياها دليلاً على حريته وإرادته. إنه "الإنسان الصرصار"
كما وصفه بعض القراء، كائن يزحف في الظلام، يكره النور ويكره نفسه، لكنه يرفض
بعناد أن يتم تعريفه أو اختزاله في أي صيغة منطقية.
#### **بنية الرواية المزدوجة من النظرية إلى الواقع المرير**
قسم دوستويفسكي الرواية ببراعة إلى جزأين يكمل
كل منهما الآخر، مما يخلق بنية فريدة تعزز من تأثيرها الفلسفي:
**الجزء الأول: "تحت الأرض" (The Underground)**
هذا الجزء هو عبارة عن مونولوج فلسفي طويل، أو بالأحرى هذيان فكري. يخاطب فيه "رجل القبو" قراءً وهميين، مهاجمًا الأفكار التي كانت سائدة في عصره، خاصة العقلانية المفرطة، واليوتوبيا الاشتراكية، وفكرة أن الإنسان كائن يمكن فهمه والتنبؤ بسلوكه عبر قوانين الطبيعة والمنطق.
- يهاجم بشراسة فكرة "قصر الكريستال"، وهو رمز المجتمع المثالي القائم على العقل والمصلحة
- مؤكدًا أن الإنسان سيفضل دائمًا حريته، حتى لو كانت هذه الحرية تعني اختيار المعاناة والدمار على
- السعادة المنطقية. صرخته الشهيرة ضد حتمية "اثنين زائد اثنين يساوي أربعة" هي إعلان عن تمسكه
- بالإرادة الحرة الفردية كأسمى
قيمة، حتى لو كانت غير عقلانية.
**الجزء الثاني "مهداة إلى الثلج الندي" (Apropos of the Wet Snow)**
ينتقل بنا دوستويفسكي في هذا الجزء من التنظير
المجرد إلى السرد القصصي. يعود "رجل القبو" بالذاكرة إلى الوراء ليروي
لنا ثلاث حوادث من ماضيه تجسد فشله الذريع في التفاعل مع العالم الحقيقي. هذه
الذكريات المؤلمة هي التطبيق العملي لفلسفته التي عرضها في الجزء الأول، وتكشف عن
مدى عجزه وتناقضاته.
1. **لقاؤه
بالضابط:** حادثة تافهة يصطدم فيها بضابط في حانة، تتحول إلى هوس بالانتقام يستمر
لسنوات، ويكشف عن شعوره العميق بالدونية ورغبته اليائسة في إثبات وجوده.
2. **حفل
العشاء مع زملاء الدراسة القدامى:** يفرض نفسه على حفل وداع لأحد زملائه القدامى،
ليقضي الليلة بأكملها في محاولة لإذلالهم وإذلال نفسه، منتهيًا بمشهد بائس يبرز
اغترابه الكامل عن أي علاقة إنسانية طبيعية.
3. **العلاقة
مع ليزا:** تمثل هذه الحادثة ذروة الرواية ومأساتها. بعد ليلة مذلة، يلتقي "رجل
القبو" بليزا، وهي عاهرة شابة. يرى فيها فرصة لممارسة سلطته الأخلاقية، فيلقي
عليها خطبة مؤثرة عن الخلاص والحب، مما يوقظ فيها أملًا حقيقيًا في التغيير. ولكن
عندما تأتي إليه لاحقًا، مدفوعة بصدق كلماته، يصاب بالذعر من هذا الاتصال الإنساني
الحقيقي. فيقوم بإذلالها بقسوة، ويدمر أملها، دافعًا إياها بعيدًا ليعود إلى أمان
قبوه المظلم. هذه الحادثة تكشف جوهر مأساته: إنه يتوق إلى التواصل الإنساني ولكنه
يدمره في اللحظة التي يقترب فيها منه، لأنه يخشى الضعف والصدق أكثر من أي شيء آخر.
#### **"رسائل من تحت الأرض" كحجر أساس للوجودية**
قبل عقود من ظهور جان بول سارتر وألبير كامو،
وضع دوستويفسكي في هذه الرواية الأسس الفلسفية للوجودية. "رجل القبو" هو
النموذج الأصلي للإنسان الوجودي الذي يدرك أن "الوجود يسبق الماهية". إنه
يرفض أي تعريف مسبق لطبيعته (سواء كان عقلانيًا، أو علميًا، أو دينيًا) ويصر على
أن حريته في الاختيار هي كل ما يملكه. هذه الحرية، مع ذلك، ليست نعمة بل عبء ثقيل،
فهي تأتي مصحوبة بالقلق والمسؤولية واليأس. الرواية هي استكشاف عميق لمفاهيم مثل:
* **الحرية
الراديكالية:** الإصرار على حرية الإرادة حتى لو كانت تؤدي إلى الشر والمعاناة.
* **العبثية (Absurdity):** الصدام
بين بحث الإنسان عن المعنى وعالم صامت لا يقدم أي إجابات.
* **الغثيان (Nausea):** الشعور
بالاختناق من كثافة الوعي ومن تفاهة الوجود.
#### **تجربة قراءة خانقة ومدهشة أسلوب دوستويفسكي**
لا يمكن فصل محتوى الرواية عن أسلوبها الفريد. يغمر دوستويفسكي القارئ في تيار وعي "رجل القبو". اللغة عصبية، متقطعة، ومكررة، تعكس حالة بطلها الذهنية المحمومة. يشعر القارئ وكأنه محبوس داخل جمجمة هذا الرجل، يستمع إلى حديث نفسه الذي لا ينتهي، ويشعر بالاختناق والضيق، تمامًا كما لو كان في "قبو حقيقي بائس ومظلم".
- هذا الأسلوب ليس ممتعًا بالمعنى التقليدي، لكنه فعال بشكل مذهل في تحقيق هدفه: جعل القارئ لا
- يقرأ عن الاغتراب، بل *يشعر* به. إن التشابه مع أجواء أعمال كافكا ليس من قبيل الصدفة؛ كلاهما
- أتقن تصوير الفرد المسحوق في مواجهة قوى غير مفهومة، سواء كانت بيروقراطية خارجية (عند
- كافكا) أو سجن الوعي الداخلي (عند دوستويفسكي).
#### **لماذا لا نزال نقرأ "رسائل من تحت الأرض" اليوم؟**
قد تبدو الرواية كئيبة إلى درجة لا تطاق، لكن
أهميتها تزداد مع مرور الزمن. إنها نبوءة تحققت عن الإنسان الحديث في عصر العزلة
الرقمية والبحث المحموم عن الذات. "رجل القبو" هو سلف كل شخص شعر
بالاغتراب في عالم يبدو سطحيًا، وكل من شعر بأن عقله هو أكبر عدو له.
إنها صرخة تحذير ضد اليوتوبيات التي تعد بالسعادة مقابل التنازل عن الإرادة الفردية. وهي تحليل نفسي عبقري لشخصية النرجسي الذي يتأرجح بين الشعور بالعظمة واحتقار الذات.
** بوصلة قبل الغوص في الأعماق**
"رسائل من تحت الأرض" ليست رواية
تُقرأ للتسلية أو التشويق. إنها رحلة فلسفية شاقة تتطلب من القارئ صبرًا
واستعدادًا فكريًا. النصيحة التي وجهها أحد القراء بأن "تأخذ بوصلة وتقرأ عن
فكر دوستويفسكي قبل فتح كتبه" هي نصيحة في محلها. فهم السياق الفكري لروسيا
في القرن التاسع عشر، والصراع بين السلافيين والغربيين، وصعود العدمية، يضيف طبقات
من المعنى لتجربة القراءة.
فى الختام
تتركنا الرواية مع أسئلة أكثر من
الإجابات. إنها عمل أدبي خالد لأنه لا يقدم حلولًا سهلة، بل يجبرنا على التحديق في
الهاوية، هاوية النفس البشرية وهاوية الحرية ذاتها. ومن خلال هذه المواجهة
المؤلمة، نخرج بفهم أعمق لتعقيدات وجودنا، وللثمن الباهظ الذي ندفعه مقابل كوننا
بشرًا.